الأدب الإسلامي 

العناية بالخط في القديم

[ 2/3 ]

 

بقلم : معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

 

     هذه هي العدة التي كانوا يتسلحون بها للكتابة، تعلو قيمتها حسب المادة التي صنعت منها، والخطاط الذي استعملها ، جزء من ثمنها للمعدن الفاخر، وجزء لملكية الفنان الذي استعملها ، جزء من ثمنها للمعدن الفاخر، وجزء لملكية الفنان الذي استعملها فترة . وإن ما يعرض من هذه الأشياء في المعارض والمتاحف يدل على عناية وذوق ، ويدل على أنهم أهل فن راق ، وليس عملهم للزينة والمنظر فقط ، ولكنه للفائدة والاستعمال قبل ذلك؛ وجماله ، ونبل المادة المصنوع منها ، تعطي لذة عند الاستعمال وترفع درجة الحماس للعمل وإتقانه ، وإبعاد التعب ، أو الركون إلى الاعتذار أو مبررات الراحة ، وهذا مثل المكتب الجميل ، والكرسي المريح في زماننا ، فإنهما يساعدان على رفع معنوية العامل ، ويبعدان عنه التعب ، لأنهما يمدانه براحة جسمية ومعنوية .

     أما عن ابن البواب الذي مرّ بنا ذكره فالنص التالي يكشف عن أهميته في فنه :

     ورد في ترجمة ابن البَرَفْطي محمد بن أحمد الأنصاري الدِّسكري :

     «كان في أول أمره معلمًا ، فلما جاد خطه صار محررًا . وكان يُبالغ في أثمان خطوط ابن البواب ، فحصل له منها ما لم يحصل لأحد غيره ، وُجدت عنده أكثر من عشرين قطعة بخطه أرانيها».(1)

     هذا يؤكد أن خطوط المشهورين تباع كما تباع التحف ، وبأثمان باهظة ، وهناك من اتخذها تجارة ، ولعله كان يتصيد الشارد منها ، حتى أصبح عنده – كما يقول الراوي – مجموعة منها .

     وفي موضع آخر من ترجمة الدسكري يقول ياقوت :

     «ومات – رحمه الله – في أول رجب سنة خمس وعشرين وست مئة ، وخلف خمسة وعشرين قطعة بخط ابن البواب لم تجتمع في زماننا عند كاتب ، وكان يغالي في شرائها».(2)

     وكان الخطاط له مريدون ، وينتقل أحيانًا من بلد إلى بلد كما فعل الدسكري عندما سافر إلى دمشق وإلى حلب ثم عاد إلى بغداد ، والنص التالي يرسم بعض النشاط الذي قام به ، ويبدو أن أمثاله يقومون به :

     «وابن البر فطي هذا أوحد عصرنا في حسن الخط ، والمشار إليه في التحرير ، قد تخرج به خلق كثير، وسافر إلى دمشق ، وكتب عليه كتابها ؛ وأقام بحلب مدة مديدة ، ثم عاد إلى بغداد .

     وحفزه السفر إلى تستر صحبة الأمير ابن أبي محمد الحسن ، وأبي عبد الله الحسيني ، ابني الأمير الملك المعظم أبي الحسن علي بن الإِمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين ، لما ولاهما أرض خوزستان بعد موت أبيهما أبي الحسن علي ، تقدم إلى ابن البر فطي بالخروج في خدمتهما ، والسكون في جملتهما ليكتبا عليه ، ويصلحا خطهما به ، ويكون معلمًا لهما».(3)

     وهكذا بلغت العناية بالخط مبلغها ، إذ استعان رجال مثل هذين الرجلين بمثل هذا الخطاط المشهور، وأخذاه معهما لينقطع لتعليمهما الخط وتحسينه .

     والقصة الآتية طريفة ، تري أهمية خط ابن البواب ، وشغف الناس بخطه ، ومدى البحث عنه واقتناء شيء منه ، ودفع ثمن عال مقابل الحصول على قطعة منه . وفي القصة فوائد أخرى تذكرنا بما يجري اليوم مع التحف من أن هناك من يبيعها جاهلاً قدرها وقيمتها ، وهناك من يشتريها عارفًا قدرها ، وقيمتها ، ولمحة عن الخُلُق في ذلك الزمن ، ويقظة الضمير، ومحاولة نقائه ، بالبعد عن الغش والخداع في بضاعة من السهل فيها أن يُخدَع المرء أو يَخْدَع :

     قال الراوي :

     «بلغني عن رجل معلم في بعض محال بغداد أن عنده جُزَازًا كثيرًا ورثـــه عن أبيـــه ، فخيل لي أنه لا يخلو من شيء من الخطوط المنسوبة ، فمضيت إليه ، وقلت له :

     أحب أن تريني ما خلف لك والدك عسى أن اشتري منه شيئًا .

     فصعد بي إلى غرفة ، وجلست أفتش حتى وقع بيدي ورقة بخط ابن البواب ، قلم الرقاع ، أرانيها أيضًا ، فضممت إليها شيئًا آخر لاَ حاجة بي إليه ، وقلت له :

     بكم هذا ؟

     فقال لي : ياسيدي ، ما صلح لك في هذا كله شيء آخر ؟

     فقلت له : أنا الساعة مستعجل ، ولعلّي أعود إليك مرة أخرى .

     فقال : هذا الذي اخترته لا قيمة له ، فخذه هبة مني .

     فقلت : لا أفعل ، وأعطيته قطعة قُراضة ، مقدارها نصف دانق .

     فاستكثرها ، وقال :

     يا سيدي ما أخذت شيئًا يساوي هذا المقدار، فخذ شيئًا آخر .

     فقلت : لاحاجة لي في شيء آخر.

     ثم نزلت من غرفته ، فاستحييت ، وقلت : هذا مخادعة ، ولاشك أنه قد باعني ما جهله ، ووالله لا جعلت حق خط ابن البواب أن يُشترى بالمخادعة ، فعدت إليه ، وقلت له :

     يا أخي هذه الورقة بخط ابن البواب ، فقال :

     وإذا كانت بخط ابن البواب ، أي شيء أصنع؟

     قلت له : قيمتها ثلاثة دنانير إمامية .

     فقال : ياسيدي ، لاتسخر بي ، ولعلك قد عزمت على ردها ، فخذها ، وحُطَّ الذهب .

     فقلت : بل أحضر ميزانًا للذهب .

     فأحضرها ، فوزنت له ثلاثة دنانير، وقلت له:

     بعتني هذا بهذا ؟

     فقال : بعتك .

     وأخذتها وانصرفت».(4)

     هذا الموقف الطريف يكشف جوانب في حياة أهل الفكر في ذلك الزمن ، الذي لم يختلف كثيرًا في بعض جوانبه ؛ فكثير من الأبناء اليوم عندما يموت سيد البيت ، ويترك مكتبة عامرة بنوادر الكتب ، ونفيس المخطوطات ، ثم تباع في تركته بثمن بخس، أو تؤول إلى من لا يعرف قدرها من أبنائه ، فتصبح يتيمة بين جدران بيته ، ومضاعة على رفوف المكتبة، وقد تتبعثر بالبيع والاستعارة ، أو تأكلها الأرضة ، ويبليها الجو الفاسد حولها .

     وعن الآلات المستعملة للكتابة ، ومظهر العناية بها من قبل الناس والخلفاء ، واهتمامهم بها ، والتفاتهم إليها ما ورد في النص التالي عنها :

     «حدث محمد بن الجهم السمري ، قال :

     كنا إذا أتينا الأحمر تلقانا الخدم ، فندخل قصرًا من قصور الملوك ، فيه من فرش الشتاء في وقته ما لم يكن مثله إلا دار أمير المؤمنين ؛ ويدفع إلينا دفاتر الكاغد والجلود ، قد صقلت ، والمحابر المخروطة ، والأقلام والسكاكين».(5)

     وكان الخط مما يُفْرَد المرء بالمدح به إذا أتقنه ، ويوضع في مقدمة صفوف المتعلمين وقواد الفكر، وهـــذا نص عن ابــن المبارك ، يبجــله ، ويعطيه حقه من التقـــدير، ويبلغ ذلك مبلغــــه عنــدما يقارن بابن البواب، ويقرن به ، ابن البواب من المحاور التي لا يتعداها المدح ، فهو يدور حولها ، ولا يبعد عنها :

     «كان المبارك بن المبارك بن المبارك – رحمه الله – فاضلاً زاهـــدًا عابــدًا ورعًا إمامًا ، أوحــد زمانه في حسن الخط على طريقة علي بن هلال بن البواب .

     وكان ضنينًا بخطه جدًّا ، فلذلك قلّ وجوده ، كان إذا اجتمع عنده شيء من تجويداته يستدعي طستًا ويغسله ، فأما إذا استفتي فإنه كان يكسر قلمه، ويجهد في تغيير خطه».(6)

     ولا يتبين لنا السر في هذا ، مع ان حسن الخط هبة فضلى من الله سبحانه وتعالى ، ونعمة كبرى ضافية ، شكرها في إشاعة نورها ، كأن يكتب بها القرآن ، وينسخ بها الصحاح ؛ ولعل السبب في فعله، ومحوه آثاره ، وطمس معالمها ، وحنقه على قلمه وكسره ، أنه خشي أن يشارِكَ فيما قد يكون رأى أنه إثم ، فقد يكون الناس في احتفالهم بالخط دون فحواه متعَبِّدين , العبادة لا تجوز إلا لله وحده، والمغالاة في تقدير الجماد قد تفضي إلى نوع من تعلق القلب بها، وهذا قد يفضي إلى عبادة آثمة ، وهو ما التفت له الإِسلام في الصور، التي عبدت في زمن الجاهلية ، ولا تزال تصرف لها العبادة في بعض الأديان ، وفي بعض المعتقدات الوثنية .

     ولعله يرى أن المهم معنى النص ، وما احتوى عليه من إرشاد ، ما الخط إلا خادم له ، ووعاء لحمله، والأمر يقلب رأسًا على عقب عندما يصبح الخادم سيدًا ، والحاوي محتوى ، وهذا ما أرعب ابن المبارك ، وجعله يفعل ما فعله .

     وحسن الخط ، والسير على قواعده أحد مؤهلات الخطاط ، وأسباب الاعتراف به ، والإِقبال على ما يكتب ، وامتداحه وشهرته ، وهذا علي بن منجب بن سليمــان الصــيرفي أبــو القــاسم قيــل عنه ما يلي :

     «علا شأنه في البلاغة والشعر والخط ، فإنه كتب خطًّا مليحًا ، وسلك فيه طريقة غريبة».(7)

     وهذا يؤكد أن إتقان أصول الخط ، وحسنه ، لا يكفي لشهرة الشخص وبروزه ، ولكن لابد أن يبتدع بجانب ذلك طريقة ينفرد بها ، تعطي خطهُ شخصية تميزه عن غيره ، بحيث يعرف ما يكتب عما يكتبه غيره ، ويكون في ذلك من التميز ما يجذب إليه الأنظار ، وينسخ سمعة من سبقه .

     والورق وأنواعه والعناية به مما أخذ حيّزًا واسعًا من تفكيرهم ، وأصبح لذلك أنواعًا ، وللأنواع أسماء، ولصنعه طرق؛ ومن النص التالي يتبين لنا شيء من هذا ، ونعرف منه مظهرًا من مظاهر العناية التي كانوا يولونها للورق وتجليده وتجميله ، مما جعله يقاوم مرور الزمن ، وحوادث الأيام :

     «قال علي بن عيسى الربعي :

     أخرج إليّ عضد الدولة بيده مجلدًا بأدم ، مبطن بديباج أخضر في أنصاف السلطاني ، مذهب، مفصول بالذهب بخط حسن».(8)

     هذا عن الكتاب وعن الورق وعن الحجم ، أما الكتابة التي يحتويها أمثال هذا المجلد المعتنى به هذه العناية كلها ، فيمثل جزءًا منها النص التالي :

     ورد في ترجمة علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الأسدي (ابن الكوفي) :

     «صاحب الخط المعروف بالصحة ، المشهور بإتقان الضبط ، وحسن الشكل . فإذا قيل : نقلت من خط ابن الكوفي ، فقد بالغ في الاحتياط .

     قال مؤلف الكتاب (ياقوت) : ورأيت بخطه عـدة كتب ، فلم أر أحسن ضبطًا وإتقانًا للكتابة منه ، فإنه يجعل الإِعراب على الحرف بمقدار الحرف احتياطًا ، ويكتب على الكلمة المشكوك فيها عدة مرارٍ : صح صح صح ، فكان من جماعي الكتب ، وأرباب الهوى فيها .

     وذكره ابن النجار في كتاب الكوفة .. قال .. الذي خَطُّهُ اليوم يؤتدم به ، وبيع جزازات كتبه ، ورقاع سؤالاته من العلماء كل رقعة بدرهم».(9)

     ولا عجب أن يقال ما قيل في النص السابق من الحفاوة بمن يعتني بالخط وحسنه ، فالخط هو الوسيلة الأولى لنقل العلم ، فكلما حسن زاد انجذاب القارئ إلى القراءة ، وقرأ براحة وابتهاج ، وتوفر له بذلك الوقت والجهد ، مع إدراك منه بتعب الآخرين من أجله ، وسهرهم لراحته . وهم يقدرون الخط الواضح الحسن ، ويمتنّون لكاتبه ، لأن في ذلك محافظة على العلم نفسه ، ودرء الزلل عنه عند القراءة ، ولهذا أشار النص إلى الميزة التي اتصف بها ابن الكوفي ، هي واحدة من عدة ميزات، وهي «اتقان الضبط» وفي هذا وقاية من الخطأ بقدر جهد الإِنسان ، و «حسن الشكل» للجمال الجاذب المريح للعين وللنفس؛ وعاد وأكد ياقوت هاتين الميزتين بقوله : «فلم أر أحسن ضبطًا وإتقانًا للكتابة منه» ، والجمال يؤكده قوله : «فإنه يجعل الإِعراب على الحرف بمقدار الحرف احتياطًا، وفي هذا أيضًا إتقان للخط، وإبعاد للزلل الذي يحدث من زحف الإِعراب وشكله من حرف إلى حرف ، ولا أدل من عنايته ويقظته من كتابة : «صح» عدة مرات .

     وتأتي قمة التقدير في قول المؤلف : إن خطه يؤتدم به ، وهو قول ليس بعده مزيد من المدح . أما القيمة التي بيعت بها الجزازات فهي بلا شك مرتفعـــة ، ولكننا لا ندرك ذلك في زمننا هذا ، لعدم تصورنا لقيمة الدرهم ، وما يأتي منه عندما يُشترى به .

     وقد يَرْمي النص التالي إشعاعًاعلى الأسعار لمن أراد أن يبحث ويقارن ، ولكن الجدوى لنا محدودة، لاختلاف المعيشة اليوم ومستواها عن تلك الأيام ، اختلافًا يصعب معــه تصــور القيمــة إلا لمتخصص في المال والأسعار ، ولكنه نص مفيد من بعض جوانبه :

     «حدث ابن عيسى الموصلي ... قال :

     كتب إليّ أبو تغلب يأمرني بابتياع كتاب الأغاني ، لأبي الفرج الأصبهاني ، فأبتعته له بعشرة آلاف درهم ، من صرف ثمانية عشر درهما بدينار؛ فلما حملته إليه، ووقف عليه، ورأى عِظَمَهُ، وجلالة ما حوى ، قال :

     لقد ظُلم ورّاقهُ المسكين ، وإنه ليساوى عندي عشرة آلاف دينار ، ولو فُقِد لما قَدِرَت عليه الملوك إلا بالرغائب».(10)

     إننا نعرف هذا الكتاب ، وحجمه الكبير، ومجلداته المتعددة ، ونقدر الطبعة الحسنة ، التي طبعته بها دار الكتب مثلاً ، ويمكننا أن نتصور الجهد اليدوي الذي بذل في كتابتها ، ولهذا لا نستغرب ما قاله أبو تغلب عن تدني القيمة التي اشتريت به ، ونقدر إنصافه لهذا الجهد ، بحيث وضع مكان كل درهم دينارًا .

     وهذا يري بعض الجهد الذي يبذله الوراقون في نسخ العدد من الكتب ، لمن يرغب شراءها ، ولهذا مدح الخط الحسن ، لأن كثرة الطلب ، والإِلحاح ، عادة تؤدي إلى السرعة في الانتاج ، أمام الإغراء ، على حساب النوعية والاتقان ، لأن العامل بشر، ويوشك مع السرعة أن يكون أقرب إلى الزلل من الصحة ، وإلى قبح الخط من حسنه .

     ولنفتح نافذة صغيرة على جانب من عمل الوراقين ، ومقدار ما يكتبون ، والجهد الذي يبذلونه، والسبب الذي أحيانًا يقودهم إلى حلبة هذا العمل ، فيمتهنونه ، على ما فيه من تعب . والنص التالي يفيد في إعطاء فكرة عن ذلك :

     «قال أبوبكر محمد بن أحمد بن عبدالباقي الدقاق المعروف بابن الخاضبة :

     لما كانت سنة الغرق (466؟) ، وقعت داري على قماشي وكتبي ، وكان لي عائلة : الوالدة والزوجة والبنت ؛ فكنت أورق الناس ، وأنفق على الأهل ، فأعرف أنني كتبت «صحيح مسلم» في تلك السنة سبع مرات ؛ فلما كان ليلة من الليالي رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت ، ومناديًا ينادي : «ابن الخاضبة» فأحضرت ، فقيل لي : ادخل الجنة ، فلما دخلت الباب ، وصرت من داخل ، استلقيت على قفاي ، ووضعت إحدى رجليّ على الأخرى ، وقلت : آه ! استرحت والله من النسخ».(11)

     إنه لعمل مضن شاق ، لقد اضطر إليه ابن الخاضبة مرغمًا بعدما وقعت داره على ما يملك من أثاث ورياش ، فاضطر أن يمتهن الوراقة بالنسخ ، ولأن عائلته – كما ذكر – ليست صغيرة اضطر أن يبذل مجهودًا متواصلاً حتى يستطيع أن يحصل على ما يقيتهم ؛ ويتبين مدى الجهد الذي كان يبذله في أنه عندما دخل الجنة في الحلم كان أول شيء خطر على باله هو الراحة من النسخ ، بعد أن استلقى على ظهره وترك الهمّ خلفه ، وانسل من عمل الدنيا .

     وكانت الوراقة مزدهرة ازدهار المطابع اليوم ، وكان للوراقين سوق رائجة ، فلديهم بيع الكتب ونسخها ، وفي دكاكينهم يجتمع الأدباء والمفكرون، وقصة الجاحظ مشهورة ، فقد روي أنه كان ينام في دكاكين الوراقين ، يقفلون عليه طوال الليل ، فيبقى هناك تتنقل عيناه بين أسطر الكتب ، وتمرح نفسه في رياضها .

     ولعل الوراق يبدأ عمله ناسخًا ، ثم يستعين بمبتدئ ثم بآخر ، ثم يفتح دكانًا ويتفق مع عدة خطاطين ونساخ ، فينسخ لحسابه بعض الكتب ويعرضها ، وينسخ بعض الكتب بطلب من الناس . وفي الكتب ما يدل على عدد الوراقين ، ويصف عملهم بدقة وتفصيل .

     وليتبين لنا حاجة الناس إلى نسخ الكتب والجهد الذي يبذل ، نذكر طرفًا مما حدث بين أبي حيان التوحيدي وأحد الكبار المسؤولين في الدولة ، وقد رجا أبو حيان رفدهُ ، فأراد هذا استغلال حاجة أبي حيان ، فطلب منه أن ينسخ له بعض المجلدات ، فرأى أبوحيان أن هذا فوق طاقته ، وتحت مستوى أمله ، فقامت على هذا عداوة بينهما، طار شرارها ، وذكى أوارها :

     «قال أبو حيان التوحيدي :

     وقصدت ابن عباد بأمل فسيح ، وصدر رحب، فقدم إليّ رسائله في ثلاثين مجلدة ، على أن أنسخها له، فقلت :

     «نسخ مثله يأتي على العمر والبصر ، والوراقة موجودة في بغداد».

     فأخذ في نفسه عليّ من ذلك ، وما فزت بطائل من جهته . فقال :

     «بلغني ذلك» .

     فقلت له : ولو كان شيئًا يرتفع من اليد بمدة قريبة ، لكنت لا أتعطل ، وأتوفر عليه ، ولو كرر معي أجرة مثله لكنت أصبر عليه ، فليس لمن وقع في شر الشباك ، وعين الهلاك ، إلا الصبر».(12)

     ولا يكفي هذا الوصف من التعب ، ولا النفرة من النسخ بسببه ، فيعيد في مقام آخر قولاً مؤكدًا عن الأمر نفسه ، ويوضح الشدة التي تنتطره لو قام بهذا العمل فيقول أخذًا من قول أسهب فيه :

     «فَلِمَ تُعنَّى عيني – أيدك الله – بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح ، وبالسواد والبياض؟».(13)

     ومن أراد المزيد في هذا الباب ، وعن أسباب العداوة بين أبي حيان والصاحب بن عباد ، الذي قصده أبو حيان فخيّب أمله ، فليرجع إلى كتاب «أخلاق الوزيرين» ففيه تفصيل ضاف .

     وقد ألف كتابه هذا من حرقة أحسّ بها ، فصب جام غضبه عليه وعلى أبي الفضل بن العميد، ومن المناسب أن نعطي مثلاً يري مدى ما وصل إليه غضبه على الصاحب بن عباد ، بسبب طلبه منه نسخ مجموعة من مجاميع كتبه ، بدلاً من أن يبره كما كان متوقعًا ، وفاجأه بأن استغل حاجته أسوأ استغلال :

     يقول أبو حيان في رسالة من رسائله :

     «وما ذنبي يا قوم إذا لم استطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا الكلب ؟! حتى أعذره على لومي على الامتناع ، أينسخ إنسان هذا القدر وهو يرجو بعدها أن يمتعه الله ببصره ؟ أو ينفعه ببدنه؟» (14)

     هذه نافذة تُري الجهد الذي كان يصرف في النسخ ، والتعب والعناء الذي يأتي من ذلك ؛ فنحن اليوم عندما نمسك بمخطوطة نتذكر ذلك ، ونستعيد حيالها عدد الأعين التي تلفت في النسخ ، والأعمار التي أفنيت في ذلك ، فتزيد قيمتها في نظرنا ، وتأخذ حقها من العناية والرعاية ، والمحافظة عليها .

*  *  *

الهوامش :

(1)     معجم الأدباء : 17/280 ، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .

(2)     معجم الأدباء : 17/278 ، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .

(3)     معجم الأدباء : 17/279 ، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .

(4)     معجم الأدباء : 17/280 ، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .

(5)     معجم الأدباء : 13/9 ، ترجمة : على بن الحسن الأحمر.

(6)     معجم الأدباء : 17/56 ، ترجمة : المبارك بن المبارك بن المبارك .

(7)     معجم الأدباء : 5/79 ، ترجمة : علي بن منجب الصيرفي .

(8)     معجم الأدباء : 14/84 ، ترجمة : محمد علي بن عيسى بن الفرج الربعي .

(9)     معجم الأدباء : 14/153 ، ترجمة : علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الأسدي .

(10) معجم الأدباء : 13/126 ، ترجمة : علي بن الحسين الأصبهاني .

(11) معجم الأدباء : 17/228 ، ترجمة : محمد بن أحمد الدقاق.

(12) معجم الأدباء : 15/13 ، ترجمة : علي بن محمد بن العباس (أبوحيان التوحيدي) .

(13) معجم الأدباء : 15/23 ، ترجمة : علي بن محمد (أبوحيان التوحيدي) .

(14) معجم الأدباء : 15/35 ، ترجمة : علي بن محمد (أبوحيان التوحيدي) .

 

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1426هـ = فبراير – مارس 2005م ، العـدد : 1 ، السنـة : 29.